الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقيل: هو من باب أفعل، والمراد به غير من أسند أفعل إليه كقولهم: أجبن الرجل إذا كان أهله جبناء، وأضعف إذا كان دوابه ضعافًا فأبصرت الآية إذا كان أصحابها بصراء.وقرأ قتادة وعليّ بن الحسين {مبصرة} بفتح الميم، والصاد وهو مصدر أقيم مقام الاسم، وكثر مثل ذلك في صفات الأمكنة كقولهم: أرض مسبعة ومكان مضبة، وعلل المحو والإبصار بابتغاء الفضل وعلم عدد السنين والحساب، وولى التعليل بالابتغاء ما وليه من آية النهار وتأخر التعليل بالعلم عن آية الليل.وجاء في قوله: {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله} البداءة بتعليل المتقدم ثم تعليل المتأخر بالعلة المتأخرة، وهما طريقان تقدم الكلام عليهما.ومعنى {لتبتغوا} لتتوصلوا إلى استبانة أعمالكم وتصرفكم في معايشكم {والحساب} للشهور والأيام والساعات، ومعرفة ذلك في الشرع إنما هو من جهة آية الليل لا من جهة آية النهار {وكل شيء} مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم {فصلناه} بيناه تبيينا غير ملتبس، والظاهر أن نصب {وكل شيء} على الاشتغال، وكان ذلك أرجح من الرفع لسبق الجملة الفعلية في قوله: {وجعلنا الليل والنهار} وأبعد من ذهب إلى أن {وكل شيء} معطوف على قوله: {والحساب} والطائر.قال ابن عباس: ما قدّر له وعليه، وخاطب الله العرب في هذه الآية بما تعرف إذ كان من عادتها التيمُّن والتشاؤم بالطير في كونها سانحة وبارحة وكثر ذلك حتى فعلته بالظباء وحيوان الفلاة، وسمي ذلك كله تطيرًا.وكانت تعتقد أن تلك الطيرة قاضية بما يلقى الإنسان من خير وشر، فأخبرهم الله تعالى في أوجز لفظ وأبلغ إشارة أن جميع ما يلقى الإنسان من خير وشر فقد سبق به القضاء وألزم حظه وعمله ومكسبه في عنقه، فعبر عن الحظ والعمل إذ هما متلازمان بالطائر قاله مجاهد وقتادة بحسب معتقد العرب في التطير، وقولهم في الأمور على الطائر الميمون وبأسعد طائر، ومنه ما طار في المحاصة والسهم، ومنه فطار لنا من القادمين عثمان بن مظعون أي كان ذلك حظنا.وعن ابن عباس: {طائره} عمله، وعن السدّي كتابه الذي يطير إليه.وعن أبي عبيدة: الطائر عند العرب الحظ وهو الذي تسميه البخت.وعن الحسن: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة إذا بعثت قلدتها في عنقك، وخص العنق لأنه محل الزينة والشين فإن كان خيرًا زانه كما يزين الطوق والحلي، وإن كان شرًا شأنه كالغل في الرقبة.وقرأ مجاهد والحسن وأبو جاء طيره.وقرئ: {في عنقه} بسكون النون.وقرأ الجمهور ومنهم أبو جعفر: {ونخرج} بنون مضارع أخرج.{كتابًا} بالنصب.وعن أبي جعفر أيضًا ويخرج بالياء مبنيًا للمفعول {كتابًا} أي ويخرج الطائر كتابًا.وعنه أيضًا كتاب بالرفع على أنه مفعول ما لم يسم فاعله.وقرأ الحسن وابن محيصن ومجاهد: ويخرج بفتح الياء وضم الراء أي طائره كتابًا إلا الحسن فقرأ: {كتاب} على أنه فاعل يخرج.وقرأت فرقة: ويخرج بضم الياء وكسر الراء أي ويخرج الله.وقرأ الجمهور: {يلقاه} بفتح الياء وسكون اللام. وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والحجدري والحسن بخلاف عنه {يلقاه} بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف.{منشورًا} غير مطوي ليمكنه قراءته، و{يلقاه} و{منشورًا} صفتان لكتاب، ويجوز أن يكون {منشورًا} حالًا من مفعول يلقاه {اقرأ كتابك} معمول لقول محذوف أي يقال له: {اقرأ كتابك}. وقال قتادة: يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئًا. وقال الزمخشري وغيره. و{بنفسك} فاعل {كفى} انتهى.وهذا مذهب الجمهور والباء زائدة على سبيل الجواز لا اللزوم، ويدل عليه أنه إذا حذفت ارتفع ذلك الاسم بكفى.قال الشاعر:
وقال آخر: وقيل: فاعل {كفى} ضمير يعود على الاكتفاء، أي كفى هو أي الاكتفاء بنفسك.وقيل: {كفى} اسم فعل بمعنى اكتف، والفاعل مضمر يعود على المخاطب، وعلى هذين القولين لا تكون الباء زائدة.وإذا فرعنا على قول الجمهور أن {بنفسك} هو فاعل {كفى} فكان القياس أن تدخل تاء التأنيث لتأنيث الفاعل، فكان يكون التركيب كفت بنفسك كما تلحق مع زيادة من في الفاعل إذا كان مؤنثًا، كقوله تعالى: {ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها} وقوله: {وما تأتيهم من آية} ولا نحفظه جاء التأنيث في كفى إذا كان الفاعل مؤنثًا مجرورًا بالباء، والظاهر أن المراد {بنفسك} ذاتك أي {كفى} بك.وقال مقاتل: يريد بنفسه جوارحه تشهد عليه إذا أنكر، وقال أبو عبيدة أي ما أشد كفاية ما علمت بما علمت، {واليوم} منصوب بكفى و{عليك} متعلق بحسيبًا، ومعنى {حسيبًا} حاكمًا عليك بعملك قاله الحسن. قال: يا ابن آدم لقد أنصفك الله وجعلك حسيب نفسك. وقال الكلبي: محاسبًا يعني فعيلًا بمعنى مفاعل كجليس وخليط.وقيل: حاسبًا كضريب القداح أي ضاربها، وصريم بمعنى صارم يعني أنه بناء مبالغة كرحيم وحفيظ، وذكر {حسيبًا} لأنه بمنزلة الشهيد والقاضي والأمير، لأن الغالب أن هذه الأمور يتولاها الرجل، وكأنه قيل: كفى بنفسك رجلًا حسيبًا.وقال الأنباري: وإنما قال {حسيبًا} والنفس مؤنثة لأنه يعني بالنفس الشخص، أو لأنه لا علامة للتأنيث في لفظ النفس، فشبهت بالسماء والأرض قال تعالى: {السماء منفطر به} وقال الشاعر: اهـ. .قال أبو السعود: {وَجَعَلْنَا الليل والنهار ءايَتَيْنِ}شروعٌ في بيان بعضِ وجوه ما ذُكر من الهداية بالإرشاد إلى مسلك الاستدلالِ بالآيات والدلائلِ الآفاقية التي كلُّ واحدة منها برهانٌ نيِّرٌ لا ريب فيه ومنهاجٌ بيِّنٌ لا يضِلّ من ينتحيه، فإن الجعلَ المذكورَ وما عُطف عليه من محو آيةِ الليل وجعلِ آيةِ النهار مبصرةً وإن كانت من الهدايات التكوينية لكن الإخبارَ بذلك من الهدايات القرآنية المنبّهة على تلك الهداياتِ، وتقديمُ الليل لمراعاة الترتيبِ الوجوديِّ إذ منه ينسلخ النهارُ، وفيه تظهرُ غُررُ الشهور، ولو أن الليلةَ أضيفت إلى ما قبلها من النهار لكانت من شهر وصاحبُها من شهر آخرَ، ولترتيب غايةِ آيةِ النهار عليها بلا واسطة أي جعلنا الملَوَيْن بهَيْآتهما وتعاقبُهما واختلافِهما في الطول والقِصَر على وتيرةٍ عجيبة يحار في فهمهما العقولُ آيتين تدلان على أن لهما صانعًا حكيمًا قادرًا عليمًا وتهديان إلى ما هدى إليه القرآنُ الكريم من ملة الإسلام والتوحيد {فَمَحَوْنَا ءايَةَ الليل} الإضافةُ إما بيانيةٌ كما في إضافة العددِ إلى المعدود أي محونا الآية التي هي الليلُ وفائدتُها تحقيقُ مضمونِ الجلمة السابقةِ، ومحوُها جعلُها ممحُوّةَ الضوءِ مطموستَه، لكن لا بعد إن لم تكن كذلك بل إبداعُها على ذلك كما في قولهم: سبحان من صغّر البعوضَ وكبّر الفيل أي أنشأهما كذلك، والفاءُ تفسيريةٌ لأن المحو المذكورَ وما عُطف عليه ليسا مما يحصل عَقيبَ جعل الجديدين آيتين بل هما من جملة ذلك الجعلِ ومُتمّماته {وَجَعَلْنَا ءَايَةَ النهار} أي الآية التي هي النهارُ على نحو ما مر {مُبْصِرَةً} أي مضيئةً يبصَر فيها الأشياءُ وصفًا لها بحال أهلها أو مبصرةً للناس من أبصره فبصره، وإما حقيقية وآية الليلُ والنهار نيِّراهما، ومحوُ القمر إما خلقُه مطموسَ النور في نفسه فالفاء كما ذُكر، وإما نفسُ ما استفاده من الشمس شيئًا فشيئًا إلى المحاق على ما هو معنى المحو، والفاءُ للتعقيب وجعلُ الشمس مبصرةً إبداعُها مضيئةً بالذات ذاتَ أشعة تظهر بها الأشياءُ المظلمة.{لّتَبْتَغُواْ} متعلقٌ بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ءَايَةَ النهار} كما أشير إليه أي وجعلناها مضيئة لتطلُبوا لأنفسكم في بياض النهار {فَضْلًا مّن رَّبّكُمْ} أي رزقًا إذ لا يتسنى ذلك في الليل، وفي التعبير عن الرزق بالفضل وعن الكسب بالابتغاء والتعرضُ لصفة الربوبية المنبئةِ عن التبليغ إلى الكمال شيئًا فشيئًا دَلالةٌ على أن ليس في تحصيل الرزق تأثيرٌ سوى الطلبِ وإنما الإعطاءُ إلى الله سبحانه لا بطريق الوجوب عليه بل تفضلًا بحكم الربوبية {وَلِتَعْلَمُواْ} متعلقٌ بكِلا الفعلين أعني محوَ آية الليل وجعْلَ آيةِ النهار مبصرةً لا بأحدهما فقط إذ لا يكون ذلك بانفراده مدارًا للعلم المذكور، أي لتعلموا بتفاوت الجديدَين أو نيِّريْهِما ذاتًا من حيث الإظلامُ والإضاءة مع تعاقبهما أو حركاتهما وأوضاعِهما وسائرِ أحوالِهما {عَدَدَ السنين} التي يتعلق بها غرضٌ علمي لإقامة مصالحِكم الدينية والدنيوية {والحساب} أي الحسابَ المتعلقَ بما في ضمنها من الأوقات أي الأشهرَ واللياليَ والأيامَ وغير ذلك مما نيط به شيء من المصالح المذكورة ونفس السنة من حيث تحققُها مما ينتظمه الحسابُ، وإنما الذي تعلق به العدُّ طائفةٌ منها وتعلقُه في ضمن ذلك بكل واحدة منها ليس من الحيثية المذكورة أعني حيثيةَ تحققِها وتحصُّلها من عدة أشهر قد تحصّل كل واحد منها بطائفة من الساعات مثلًا فإن ذلك وظيفةُ الحساب بل من حيث أنها فردٌ من تلك الطائفة المعدودة بعدها أي يُفنيها من غير أن يعتبر في ذلك تحصيلُ شيءٍ معين وتحقيقُه ما مر في سورة يونسَ من أن الحسابَ إحصاءُ ماله كميةٌ منفصلة بتكرير أمثالِه من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حدٌّ معين منه له اسمٌ خاصٌّ وحكمٌ مستقل كما أشير إليه آنفًا، والعدُّ إحصاؤُه بمجرد تكرير أمثالِه من غير أن يتصل منه شيء كذلك، ولما أن السنين لم يعتبر فيها حدٌّ معين له اسمٌ خاصٌّ وحكم مستقلٌّ أُضيف إليها العددُ وعُلّق الحساب بما عداها مما اعتبر فيه تحصُّل مراتبَ معينةٍ لها أسامٍ خاصة وأحكامٌ مستقلة، وتحصّلُ مراتبِ الأعداد من العشرات والمئات والألوف اعتباريٌّ لا يجدي في تحصل المعدودات، وتقديمُ العدد على الحساب مع أن الترتيبَ بين متعلّقَيْهما وجودًا وعدمًا على العكس للتنبيه من أول الأمر على أن متعلق الحساب ما في تضاعيف السنين من الأوقات أو لأن العلمَ المتعلِّق بعدد السنينَ علمٌ إجماليٌّ بما تعلق به الحساب تفصيلًا، أو لأن العدد من حيث إنه لم يعتبر فيه تحصلُ شيءٍ آخرَ منه حسبما ذكر نازلٍ من الحساب المعتبر فيه ذلك منزلةَ البسيط من المركب، أو لأن العلم المتعلقَ بالأول أقصى المراتب فكان جديرًا بالتقديم في مقام الامتنان والله سبحانه أعلم {وَكُلَّ شىْء} تفتقرون إليه في المعاش والمعادِ سوى ما ذكر من جعل الليل والنهار آيتين وما يتبعه من المنافع الدينية والدنيوية، وهو منصوبٌ بفعل يفسره قوله تعالى: {فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} أي بيناه في القرآن الكريم بيانًا بليغًا لا التباسَ معه كقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء} فظهر كونُه هاديًا للتي هي أقوم ظهورًا بينًا.{وَكُلَّ إنسان} مكلف {ألزمناه طائره} أي عملَه الصادرَ عنه باختياره حسبما قُدِّر له كأنه طار إليه من عُشّ الغيب ووَكْر القدر، أو ما وقع له في القسمة الإلية الواقعةِ حسب استحقاقِه في العلم الأزليِّ من قولهم: طار له سهمٌ كذا {فِى عُنُقِهِ} تصويرٌ لشدة اللزوم وكمالِ الارتباط أي ألزمناه عملَه بحيث لا يفارقه أبدًا بل يلزمه لزومَ القِلادة أو الغُلّ للعنق لا ينفك عنه بحال، وقرئ بسكون النون {وَنُخْرِجُ لَهُ} بنون العظمة وقد قرئ بالياء مبنيًا للفاعل على أن الضمير لله عز وجل وللمفعول، والضمير للطائر كما في قراءة يخرُج من الخروج {يَوْمُ القيامة} للحساب {كتابا} مسطورًا فيه ما ذكر من عمله نقيرًا وقِطميرًا وهو مفعول لنُخرجُ على القراءتين الأُوليين أو حالٌ من المفعول المحذوفِ الراجع إلى الطائر وعلى الأخرَيَين حالٌ من المستتر في الفعل من ضمير الطائر {يلقاه} الإنسان {مَنْشُورًا} وهما صفتان للكتاب أو الأول صفةٌ والثاني حالٌ منها، وقرئ يلقاه من لقِيته كذا أي يلقى الإنسانُ إياه. قال الحسن: بُسِطت لك صحيفةٌ ووكّل بك ملكان فهما عن يمينك وعن شمالك فأما الذي عن يمينك فيحفظ سيئاتِك حتى إذا مُت طُويت صحيفتُك وجُعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة.{اقرأ كتابك} أي قائلين لك ذلك. عن قتادة يقرأ ذلك اليومَ من لم يكن في الدنيا قارئًا، وقيل: المرادُ بالكتاب نفسُه المنتقشةُ بآثار أعماله فإن كل عمل يصدُر من الإنسان خيرًا أو شرًّا يحدُث منه في جوهر روحِه أمرٌ مخصوصٌ إلا أنه يخفى ما دام الروحُ متعلقًا بالبدن مشتغلًا بواردات الحواسِّ والقُوى، فإذا انقطعت علاقتُه عن البدن قامت قيامته لأن النفس كانت ساكنةً مستقرة في الجسد وعند ذلك قامت وتوجهت نحو الصعود إلى العالم العلويِّ فيزول الغطاءُ وتنكشف الأحوالُ ويظهر على لَوح النفس نقشُ كلِّ شيء عملِه في مدة عمرِه وهذا معنى الكتابة والقراءة {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} أي كفى نفسُك، والباء زائدة واليومَ ظرفٌ لكفى وحسيبًا تمييزٌ وعلى صلتُه لأنه بمعنى الحاسب كالصريم بمعنى الصارم من حسَب عليه كذا. أو بمعنى الكافي، ووُضِع موضعَ الشهيد لأنه يكفي المدعي ما أهمه. وتذكيرُه لأن ما ذكر من الحساب والكفاية مما يتولاه الرجال أو لأنه مبنيٌّ على تأويل النفس بالشخص على أنها عبارة عن نفس المذكر كقول جَبَلةَ بن حريث:اهـ. .قال الألوسي: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} هذا على ما قيل شروع في بيان بعض ما ذكر من الهداية بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالآيات والدلائل الآفاقية التي كل واحدة منها برهان نير لا ريب فيه ومنهاج بين لا يضل من ينتحيه فإن الجعل المذكور وما عطف عليه وإن كانا من الهدايات التكوينية لكن الأخبار بذلك من الهدايات القرآنية المنبهة على تلك الهدايات.
|